Daftar Slot88
Slot777 Server Thailand
مقالات

بقلم دكتور سفير السلام الدولي

ابراهيم فوزي محمد غزال
نص السؤال: هل التسامح فعل مطلق أم نسبي؟
إن التعامل مع مقتضيات الواقع وارتباطات الإنسان العلائقية مع الآخر، في إطار حركة التنافر والتجاذب التي تحكم حياة الناس، قد تطغى عليها في كثير من الأحيان مظاهر العنف واللاتسامح، وإيذاء الغير…فتفتر العلاقات بين الناس، ويسود جو من التشاحن بينهم، حيث يعرف العنف بأنه هو كل عمل يضغط به شخص عن إرادة الغير لسبب أو لآخر، ويستوجب استعمال القوة، لكن حكمة الإنسان وعظمته تكمن في قدرته على تجاوز هذا الحال. ومقابلة العنف باللاعنف، بل والارتقاء إلى مستوى التسامح والصفح الجميل عمن أخطأ في حقه، أو اعتدى عليه بأسلوب ما، مما يعني مقابلة العنف بالتسامح، وهو ممارسة حضارية وقيمة من القيم الإنسانية وتعني العفو والصفح المتبادل. غير أنه قد ثار جدال ونقاش في الأوساط الفكرية والفلسفية حول طبيعة التسامح، وظهر بذلك اتجاهان متعارضان: يرى أحدهما أن التسامح مطلق وهو مطلب وضرورة إنسانية، بينما يعتقد أنصار الاتجاه الآخر، بأنه فعل مقيد ومضبوط بشروط. لذلك ورفعا للتعارض والجدال بين الموقفين حق لنا أن نتساءل: هل فعل التسامح كفضيلة أخلاقية فعل مطلق وعام أم أنه مقيد بشروط وضوابط؟ وبعبارة أدق: هل التسامح مبدأ ثابت وعالمي أم أنه مقيد بشروط؟
يرى عدد من المفكرين والفلاسفة وعلماء الأخلاق وعلى رأسهم “سقراط”، “كانط” و”غاندي”، ومختلف الديانات السماوية. أن التسامح فعل مطلق ومبدأ ثابت وعالمي، ومطلب انساني ضروري، باعتباره مبادرة إلى الخير، واقتدار من الإنسان، وترفع وإحجام عن العقاب، وارتقاء إلى مستوى العفو والصفح عن الغير، مهما كانت درجة ما اقترف وما أقدم عليه من جرم، فتلك أرقى أنواع الإرادة والتحكم في النفس. يقول “فولتير”: “أحبوا الحقيقة، لكن أعفوا عن الخطأ”، فالتسامح خلق وفضيلة، تعبر عن اقتدار الإنسان على الصفح والعفو عمن أخطأ في حقه، أو اعتدى عليه، والتسامح هو قبول الاستماع إلى الآخر ولآرائه، حتى وإن كانت مضادة لآرائه، والتسامح هو الامتناع عن نشر الآراء بالقوة، والقدح والخداع….فقد عرفه “غوبلو” بقوله: “بأنه ما لا يوجب على المرء التخلي عن معتقداته أو الامتناع عن إظهارها، أو الدفاع عنها….بل يوجب عليه الامتناع عن نشر آرائه بالقوة والقسر والقدح والخداع”. فالتسامح خلق عام يتسع لكل المجالات الدينية، والسياسية والخلقية والاجتماعية…فهو مبدأ عالمي مطلق ومفتوح، يرتبط بكل أبعاد الإنسانية ومناحي حياتها، لهذا يدعو الكثير من الفلاسفة والمفكرين والمصلحين لاستثمار التسامح وتفعيله كثقافة وتربية حيوية ضد كل أشكال العنف، واعتماده كأسلوب لتهذيب الكثير من التناقضات والاختلالات الاجتماعية لأن التسامح لا يقف ضد أي طرف، بل يقبل كل الأطراف ويدعوها جميعا لتتوافق فيما بينها، لتأسيس رؤية مستقبلية جديدة. من هنا يؤكد “فولتير” في كتابه “مقالة في التسامح”. بأن التسامح هو قانون الطبيعة الأول، ويدعو إلى التسامح في جميع المجالات وخاصة في المجال الديني لأن الابتعاد عنه يؤدي إلى مآسي وآلام. بقوله: “إننا أبناء من نفس الأب ومخلوقات من نفس الإله، إننا عجين من النقائص والأخطاء لنتسامح حماقاتنا فيما بيننا، إنه قانون الطبيعة الأول”، يقول أيضا: “لن يتحقق السلام الدائم، ما لم يتسامح الناس مع بعضهم البعض، ويتعلم كل واحد منهم كيف يتسامح مع من يخالفه في الأمور الفلسفية والسياسية والدينية”. واعتبر “غاندي” التسامح طريق للتعبير وبناء الإنسان الواعي لذاته، يقول: “ولكني أعلم أن اللاعنف يسمو على العنف سموا لا حد له، وأن العفو أشد شجاعة من العقاب، فالعفو حلية المقاتل”. وعلى هذا كان التسامح دوما مبادرة إلى الخير، ومصدر رحمة وتعايش بين بني الإنسان، في إطار القبول بالتنوع والتعدد، كل بمميزاته بلا إقصاء أو إلغاء. وقد كان الإسلام كرسالة عالمية، سباقا لإرساء قواعده بمفهوم التسامح، وإشاعته بين أفراد المجتمع الإسلامي الواحد وبين مختلف العقائد والديانات المخالفة. من خلال دعوته إلى احترام اختلاف الناس وتوجهاتهم، ومللهم، بل ودعوتهم للتعايش والتسامح مع بعضهم البعض بلا إكراه، قال تعالى: “لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي..” (البقرة 25)، وقال أيضا: “وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم” (النور22). يقول أيضا: “ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعفوا عنهم، واستغفر لهم…”، “…وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم”. ولنا في النماذج السلوكية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمثلة على قوة التسامح وقدرته على التأليف بين القلوب، والجمع بين الناس. فقد قال لأهل مكة بعد فتحها، وهو القادر على معاقبتهم على ما فعلوه له: “لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم…اذهبوا فأنتم الطلقاء…”. ويدعو كذلك فيلسوف الحوار الحضاري “روجي غارودي” إلى اعتناق الإنسان بالمحبة دائما مهما كانت عقيدته وجنسه، على أساس مبدأ التسامح والعفو الجميل. مؤكدا من جهة أخرى أن الانتصار الحقيقي يكمن في مكافحة العنف والعزوف عنه، ورفض الدوافع الغريزية الجامحة، عندها فقط تظهر إنسانية الإنسان، يقول: “إننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، ولكن بمقدار ما نقتل فينا الرغبة في القتل”. فالتسامح فضيلة تجعل السلام ممكنا ليساهم في إحلال ثقافة السلام بدل ثقافة الحرب، وهو ليس تنازلا ولا تعاطفا أو تساهلا فهو قبل كل شيء قرار بحق الآخر في مقابل حق الأنا.
ولنا أيضا في فلسفة “كانط” ما يؤكد مطلقية التسامح من خلال طلب الفضيلة (التسامح) لذاتها دون مقابل وبعيدا عن الشروط. فالتسامح هو الطريقة الأنجع للحفاظ على الاستقرار والأمن لأنه يعبر عن النظرة السامية للإنسان الذي يجب أن يعامل كغاية وليس كوسيلة حيث يقول “كانط”: “اعمل دائما بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي أشخاص الآخرين غاية لا مجرد وسيلة”. دون أن ننسى ما أكدته هيئة الأمم المتحدة في إعلانها لحقوق الإنسان والفيلسوف المعاصر “روجي غارودي” في حوار الديانات والحضارات حيث تم إعلان يوم 16 نوفمبر يوم عالمي للتسامح. وبالتالي فالتسامح مفهوم مفتوح للتعايش الإنساني بعيدا عن كل شروط. يؤسس لمجتمع إنساني تحكمه القيم، يؤسس لاستقرار المجتمع وتضامنه وألفته. مما يؤكد أن الإنسان ومن خلال التسامح يستطيع أن يتجاوز العدوانية ويرتقي إلى مستوى الصفح والعفو عن الغير، في إطار التواصل المشبع بالقيم الخيرة، التي تقطع جذور الشر ولا تغذيه.
لكن أنصار هذا الاتجاه موقفهم فيه نوع من المبالغة لأن شمولية التسامح ومطلقيته قد تؤدي إلى إفقاده قيمته وتأثيره في واقع الناس، فالمسامحة والصفح على كل شيء معناه التفسخ والانحلال والتشجيع على الفساد. كما أن التسامح المطلق قد يكون تعبير عن نوع من أنواع الضعف والتخاذل وعدم إحقاق الحق والتساهل مع أهل المفاسد قد يؤدي إلى اختلال المجتمع والنظام فيه. ثم إن جعل التسامح مفتوحا، قد يكون ذريعة للمجرمين لإسقاط الجزاء والمحاسبة والمطالبة بالعفو، رغم ما ارتكبوه في حق الغير من مظالم. بالإضافة إلى أن التسامح المطلق قد يفقدنا بعض قوتنا الشعورية حين نوجهه إلى مخلوقات لا يرجى لها إصلاح. ومن جهة أخرى نجد أن المشكلة التي تتعلق بقضية التسامح في حياتنا هو أن الشخص الذي يتخذ التسامح مبدأ في حياته، يقع ضحية لا تسامح الآخرين، و أنه لكي يسترجع ما أضاعه لابد أن يكون غير متسامح، أو يضع قيود و شروط لتسامحه، فما جدوى التسامح في وضع غير متسامح.
في المقابل يرى عدد آخر من الفلاسفة والمفكرين أن التسامح مقيد وليس مطلق. لأن التسامح المطلق يؤدي إلى الفوضى لهذا وجب تقييده بشروط وضوابط. إذ لا جدوى من التسامح في وضع غير متسامح. فإذا كان العدل كفضيلة أخلاقية هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فإن التسامح أيضا لا يجب أن يكون مطلقا، بل يقتضي تقييده، وتحديد مجاله، وفق ضوابط وشروط وأركان وجب الوقوف عندها والحفاظ عليها، لأن التسامح المفتوح على كل الاحتمالات قد يؤدي إلى انتفاء التسامح، وفقدان دلالته، بل قد يؤدي إلى ظهور نقيضه إذا لم تعين له الحدود، كالحرية التي قد تتحول إلى فوضى في غياب حدود لها، فالإنسان الذي يرفض التسامح مثلا، كيف نسامحه ونعفو عنه؟ فإن فعلنا ذلك فإننا نعمل على تشجيعه على الفساد والممارسات العنيفة والإجرامية. فقد نجد أشخاصا يتخذون من التسامح شعارا وذريعة للقمع والتسلط وهذا يتناقض مع مفهوم التسامح، فلا يصح التسامح معهم. وإذا كان التسامح فضيلة فلا ينبغي أن يدعيه من لم يقم ولا يؤمن بحقه فبعض الأشخاص إذا أسيء إليهم شغلوا من حولهم بالحديث عن تسامحهم لمن أساء إليهم، وهم في الحقيقة يريدون التشهير لا غير، ولو أنهم سامحوا حقيقة لما فعلوا ذلك. ولو أنهم انتقموا ممن ظلمهم بقدر ظلمه لكان أفضل. كذلك نجد أن علماء الأخلاق يؤكدون في دراساتهم أن الكثير من القيم الأخلاقية نسبية، مرتبطة بثقافة المجتمعات ومعتقداتهم وعاداتهم، وما هو مقبول في مكان ما قد يكون مرفوضا في مكان آخر. لهذا فالتسامح قد لا يكون على شكل ومعنى واحد عند الجميع، لذلك لا بد من ضبطه وتقييده، في حدود التوافق الاجتماعي والعقائدي والتاريخي أحيانا.
فالعولمة اليوم مثلا هي نوع من الاستعمار المقنع، تفرض التعامل معها بنوع من اللاتسامح لأنها رغبة في محو ثقافات وحضارات شعوب بأكملها والسيطرة على ثرواتها، لذلك فرفع شعر التسامح المطلق لا يقضي على الظلم والعنف وثقافة إلغاء الغير. وفوق هذا فالتسامح هو فعل وعلاقة بين طرفين، وهذا يقتضي تراضي طرفي المسامحة، عن طريق رفض كل منهما أشكال العنف، وقبول أحدهما بالآخر، والصفح عنه بلا اعتراض وعدم الرجوع لما كان عليه، وإلا صار التسامح مجرد خديعة ومراوغة ومضيعة للوقت واستهزاء بالغير…كما يشترط في التسامح أيضا الحوار بعيدا عن كل التعصبات أو أية أفكار مسبقة عن الآخر. مع الاستعداد التام لممارسة التسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادة. ف “جون لوك” من أكبر المؤيدين لمبدأ التسامح وضع مجموعة من الضوابط، من يتعداها لا يمكن التسامح معه بأي حال من الأحوال، كالترويج لمعتقدات وأصول تهدد بنسف المجتمع، الترويج للإلحاد، الأفعال التي تهدف إلى تدمير الدولة أو التعدي على أموال الآخرين، والولاء للحكام الخارجيين (الخيانة). لكل هذه الأبعاد وغيرها وجب أن يكون التسامح مقيد ومشروط بقيمة وصلاحية ورضى الأطراف المتسامحة وإلا فقد مصداقيته والهدف منه.
لكن ورغم ما قدمه أنصار هذا الاتجاه من أدلة وحجج إلا أنهم هم كذلك لم يسلموا من النقد. فالتسامح فضيلة خلقية ومطمح كل الإنسانية والأديان، وتقييده بشروط هو تقييد لصلاحياته الواسعة و لغايته النبيلة في نشر السلم والأمن والتعايش. فالإنسانية مزقتها الصراعات وأنهكتها أنواع العنف. كما أن تقييد التسامح بشروط وضوابط قد يكون عائقا أمام تحقيق التسامح، بل ودافع لرفضه والإعراض عنه. لأن الشروط المسبقة غالبا ما تكون محل اختلاف وتنازع. كما أن جعل التسامح مقيد بشروط هو خنق للتسامح، وجعله تحت رحمة الأهواء والتقديرات الذاتية الضيقة، وهذا ما يثير الشك في فعل التسامح ولا يشجع على الإقدام عليه.
نتيجة للانتقادات الموجهة لكلا الاتجاهين يمكننا التوفيق بينهما بالقول أن التسامح فضيلة أخلاقية، لها دائما حضورها في نطاق الحياة الاجتماعية، في جميع أبعادها ومستوياتها….وهو في جوهره مبدأ مطلق وعام، يعطي صورة موحدة لملامح مبدأ التسامح وهدفه، ولا يمكن لأحد أن ينكر هذا أو يزعم أنه يتغير من زمان إلى آخر ومن قوم إلى آخرين، لكن مختلف السلوكات والوسائل التي نعتمدها ونسعى بها لتحقيق التسامح وتطبيقه وتفعيله في الواقع، فإنها تتغير بتغير الظروف والبيئات والمجتمعات، وهذا ما يعبر عن جهة التقييد في التسامح. (مع إبراز الرأي الشخصي وتبريره).
ختاما ومما سبق نستنتج أن التسامح حكمة وفضيلة أخلاقية تعبر عن اقتدار الإنسان على قبول من أخطأ واعتدى على حق من حقوقه، بل والارتقاء إلى مستوى العفو والصفح عنه على أساس المحبة والإخاء الإنساني، لأن التسامح كمبدأ أخلاقي مطلق يدعونا دائما لتطوير استعداداتنا في الصفح بصورة مستمرة. وعليه يكون التسامح كقيمة خلقية في أصله مطلق ولكن في تطبيقه يجب أن يقيد بضوابط وشروط. لأنه يجب محاربة العنف السلبي بنقيضه الإيجابي، أي لا يرد العنف بالعنف بل بالحكمة والتسامح كأسلوب حضاري….
قد تكون صورة لـ ‏‏‏ابراهيم فوزى محمد غزال‏‏ و‏وقوف‏‏

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!