مقام العلم في نهج البلاغة:
الجزء ١
مقدمة:
العلم كلمة مفتوحة الأبعاد تبدأ من التعرف على النفس؛ ومن ثم التعرف على الشيء ..فأي علم نننشد؟
إذا كنا نسعى إلى أن نصل إلى غاية من غايات المعرفة علينا أن نعرف أن المعرفة تعتمد بشكل رئيس على العلم، فالعلم متجه بكل عناصره إلى الغاية المرجوة منه وبالتالي فكل علم يحتاج إلى الدراية والحكمة ؛ وتعدد العلوم بتعدد وسائلها وغاياتها ومصادرها
قال الإمام الصادق ع: أصل كل حال سَنّي ومنتهى كل منزلة رفيعة ..
وقال النبي الكريم ص: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة اي علم التقوى واليقين .
وقال عليه السلام: اطلبوا العلم ولو بالصين : فهو علم معرفة النفس وفيه يعرف الرب عز وجل..
وقال النبي ص: نعوذ بالله من علم لا ينفع وهو العلم الذي يضاد العمل بالإخلاص.
والعلم يحتاج إلى كثير من العمل..وقال الصالح العلم لا يقوم إلا بالعمل..
قال عيسى ع: من لا يعلم بعمل يعمل مشؤوم عليه طلب مالا يعلم ومردود عليه ماعلم..
ليس لله طريق يسلك إلا بالعلم ؛ والعلم زين المرء في الدنيا والآخرة وسائقه إلى الجنة وبه يصل إلى رضوان الله تعالى..
والعالم حقا هو الذي تنطق فيه أعماله الصالحة وأوراده الذكية وصدقه وتقواه ؛ ولقد كان يطلب هذا العلم من كان فيه عقل ونسك وحكمة وحياء وخشية؛ والعالم يحتاج إلى عقل ورفق وشفقة ونصح وحلم وصبر وقناعة وبذل..
والمتعلم يحتاج إلى رغبة وإرادة وفراغ ونسك وخشية وحفظ وحزم.
قال الإمام علي ع: إن أرزل الله عبدا حظر عليه العلم ..
فالعلم كلمة تتخذ معناها أما من طريقة الحصول عليها او من غايتها ؛ او من وسيلتها ؛ فلذلك تقول: علم الكيمياء ؛ علم الجبر؛ علم الفلسفة ؛ علم الكلام ؛ علم الباطن والظاهر الخ
علم الطبيعة: وهو حركة العقل من قراءة ظواهر الطبيعة التي تجري على مادة الطبيعة وغير المادة المحسوسة واكتشاف القوى الموجودة في الطبيعة وخضوعها لحركة العقل..
العلم اللدني” التكويني” وهذا العلم حصل بدون جهد ؛ ويمكن أن نقول عنه علم الإلهام او الوحي ..يشير القرآن الكريم على أن الله أعطى آدم علم الكون لقوله ( وعلم آدم الأسماء الحسنى” فمن الحكمة الإلهية أن يعلمه كل طرق المعرفة ووسائل الحصول عليها ليعلم من جاء بعده بالتتابع وليس معرفة الأسماء فقط كما يفسره البعض.. وهذا العلم التكويني مرتبط ارتباطا وثيقا لكن الإلهية بلا سبب أو علة وإنما بمشيئة وإرادة الخالق فكان علمه علما تكوينيا مترافقا مع كل الأنبياء والرسل..
فالعلم التكويني عرّفه الكاشاني بقوله: العلم اللدني يراد به العلم الحاصل من غير كسب ولا تعمل للعبد فيه سمي لدنيا لكونه يحصل من لدن ربنا لا من كسبنا قال تعالى.. وعلمناه من لدنا علما..
أما من جهة العلوم الأخرى
قال أمير المؤمنين ع:
لو وضعت لي وسادة وجلست عليها لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ولأهل القرآن بقرآنهم ..
وهذا العلم لا يحتاج إلى العلم الإكتسابي ” الله نور السموات والأرض…..”
العلم الإلهامي: قال الإمام ع: اتقوا ظنون المؤمنين فإن الله جعل الحق على ألسنتهم ؛ وهذه العلوم تحتاج إلى جهاد واستعداد وعلمية وعقلية وسلوكية يخلص فيها الملهم إلى الله وحده ويبقى مرتبطا ارتباطا وثيقا في العلم التحصيلي الإكتسابي ؛ وسمي هذا العلم بالإشراقي : أي إشراق النور الإلهي على قلبه نسبة إلى شروق الشمس من جهة الشرق ؛ فالشمس مصدر النور الأرضي فتضيء بنورها الأرض ؛ والإشراقي نسبة إلى النور الإلهي الذي يشرق على القلوب المنيرة بنور الله لتعم الرحمة علة كل مخلوق ؛ تلك الحالة يعرفها أصحاب الذوق في علم العرفان ؛ ويكون قلبه ونفسه وسلوكه أمكنة ظاهرة صالحة لتقبل هذا الإلهام ..
يقول البرفسور وهوستن سميث :
ومن علامات التوافق والإنسجام الجيد؛ الشعور بأن الحياة والعالم لهما معنى وعندما يكون التوافق تماما فإن طاقات الكون تصب في المؤمن وتمنحه قوة هائلة ؛ وتدرك روح الإنسان أنها تنتمي للمطلق ؛ وإن المطلق يؤيدها ويدعهما ..
المطلق ” الله سبحانه” ولكن كيف يصل الإنسان إلى الحالة التي ينتمي فيها إلى الله ..فقال هوستن: تحتاج العقول لبيئة ملائمة للفهم الصحيح تماما كما تحتاج الكائنات العضوية للبيئة الملائمة لوجودها ونموها..
كما أن الله سبحانه ألهم أنفسنا الصلاح والخير بفطرتنا التي فطرنا عليها ؛ والإبداع حالة اختراع صور جديدة لم يكن لها مثيل أو شبيه
في صوره العقلية المخزنة في الذاكرة.
إن ما يعيد الكيان الإنساني والإنسان لا يتوقف
على علوم الدين فقط لأن العلم الديني يجب أن يتخذ من العلم الطبيعي سلما معرفيا له كعلم الفلسفة والعلوم الأخرى..
قال الإمام ع: لا تجعلوا علمكم جهلا ؛ ويقينكم شكا؛ إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فاقدموا
فلا يجب ان يتوقف العلم عند حد من العلوم للوصول إلى الغاية السامية التي يجب أن يسعى إليها كل إنسان فعلم الفلسفة والمنطق وعلم الكلام والرياضيات والفلك كلها تسمو بالعقل للوصول إلى الغاية..
روى أبو حيان التوحيدي عن سيده الإمام الصادق ع:
حدّ علم الدنيا انه العلم النافع والضار وما جلب من المنافع منها وأعان فيه ودفع المضار أو أعان على ما تدفع به..
وحد علم الدنيا الشريف هو العلم بما اغنى الإنسان عن جميع الناس في قوام حياته الجيدة..
وحد علم الدنيا الوضيع هو العلم بما يوصل إلى اللذات والمنافع وحفظ الحياة قبل الموت..
وحد علم الصانع انه العلم بما يحتاج إليه الناس في منافع دنياهم..
وحد علم الصنائع المحتاج إليها للكفاية والمعونة علم الدنيا الشريف هو العلم بما يتوصل به مع إقامة الحياة على استفادة فضل كاف فيما يراد من المعونة على العلم الشريف كغاية جزئية أو كلية..
العلم بكل اشكاله وانواعه ينظر إلى صلاحه من حيث غايته وكل علم يتجه نحو سمو الإنسان في بشريته ؛ فإن تحققت الغاية من العلوم صلح الإنسان بعودته إلى إنسانيته التي فرت منه هاربة من جهله وجوره.
ج٢
العلم متعلق بالمعلوم وأول المعلوم العلم الفطري المودع بالقوة في ثنايا الروح المشير إليه بلا دليل برهاني إلى العلم بوجود خالق لهذا المخلوق؛ ونتائجه الإقرار بوحدانية الخالق..
شرف العلم متعلق بشرف غايته؛ وخير العلوم وأشرفها تلك التي تجمع نتائج كل أنواع علوم الموجودات لتنقلها إلى غايتها وهو العلم الإنساني الذي يسمو بالإنسان إلى حالته الروحية المتسامية فوق الطبائع لتخرق جدار الأبدان وترى نور الخالق الديان..
قال الصادق ع: لا يقبل الله عملا بلا معرفة ؛ ولا معرفة إلا بعمل ؛ فمن عرف دلته معرفته على العمل ؛ ومن لم يعمل فلا معرفة له ” إلا ان الإيمان بعضه من بعض..
والعلم في النهج فتقوم على أشرف العلوم ؛ وكما قلنا العلم هو اللبنة الأولى في هرم المعرفة ونرى الإمام علي ع: يوجه إلى العلم الإلهي المتعلق بصلاح الإنسان ؛ ومن العلوم ما يعجز عنه الإنسان لضعف عقله وفكره وهي العلوم التي تخص اسرار الله.
قال الإمام علي ع: وما كان من فراجها وسمانها وأصناف أسناخها واجناسها ؛ ومتبلدة اممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ؛ ولتحيرت عقولنا في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت ورجعت خاسئة حسيرة عارفة بأنها مقهورة مقرة بالعجز عن إنشائها….
جهل الإنسان ليس مركبا على نقص في القوى الباحثة والمركبة للصور في العقل فقط؛ وإنما هو لاتساع رقعة ولمحدودية الصور المنقولة ايضا؛ فهي مانعة بذاتها عن بلوغ كمال المعرفة رغم وجود العقل لكن وسائل تغذية بالصور مقيدة بطبيعتها وعددها..
قال الإمام ع: رحم الله أمرأ تفكر فاعتبر فابصر فكان وما هو كائن في الدنيا عن قليل لم يكن العالم من عرف قدره وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره..
التفكر عملية تحليل الصور المنقولة إلى العقل وهنا كلمة صور تشمل الرواية والمأثور من القول والرجوع بالظواهر والمظاهر إلى حقيفة وجودها والغاية من إيجادها والحكمة من بيانها في مظاهرها سواء أكانت المظاهر فكرية أو عقلية أو مادية..
فالعالم الذي يعرف قدره أول أبواب علم الإنسان أن يكون عالما بما يختزن من معرفة سواء في ذاكرته أو قدرته على استخراج الصور واستنباط النتائج او حدود إمكانياته المتاحة له من مصادر المعرفة؛ وقدرته على استنباط الأحكام المتوافقة مع دين الله سبحانه..التي لا يمكن أن تفارق أو تباين العقل السليم ؛ فالميزان والمعيار موجود وواضح ودليل وحجة على من خسف الكيل..
العلم من العالم كشعاع من نور يبصر فيه في ظلام ليل اسود..
والجهل لا حدود له في الإنحدار وهذا ما نراه في حين وزمان ومكان فهو في نفق مظلم..
قال الإمام ع: العلم علمان : مطبوع ومسموع ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع..
ج٣
فالعلم المسموع: من باب عَلِم بالأمر ، أي سمع به فحصل لديه علم بوجوده ؛ والسمع من ضمن الأدوات التي تسترق العلم من المعلوم أيا كان طريق حصوله ، والعلم المطبوع هو علم الدراية ويمكن أن يؤخذ من باب الجبلة التي جبل الله بها مظاهره ” وعلم آدم الاسماء كلها….” والتعليم هنا طبع في النفس والعقل والقلب ؛ ونفخنا فيه من روحنا ؛ ويأتي المطبوع من باب الفطرة التي فطر الله الناس عليها وكلها تأخذ بالدراية فأخذ الأصل للفرع فالدراية تكون والحالة هذه مظهر للمطبوع من علم في فطرة العالم بالعلم.
قال الإمام ع: ياكميل بن زياد؛ معرفة العلم دين يدان الله به ؛ يكسب الإنسان الطاعة في حياته ؛ وجميل الأحدوثة بعد وفاته؛ والعلم حاكم والمال محكوم عليه ..
الدين لصلاح الإنسان؛ والعلم ركن اساس في الدين ..قال الإمام: اول الدين معرفته ، والمعرفة جوهر العلم ومسلكه الدين ؛ والعلم اعتقاد يقود إلى العقيدة ، فمن عرف ربه اعتقد وجوده وآمن به ؛ ومن آمن به إيمان معرفة وعلم التزم بما أمر به وانتهى عما نهي عنه .. ولا دين بلا علم ومن دان بلا علم ضلّ معتقده العلم طريق اليقين..
قال الإمام ع: واليقين منها على أربع شعب ؛ علم بنظرة إلى الفطنة ، وتأويل الحكمة، وموعظة العبرة؛ وسنة الأولين..فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة؛ ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة ؛ ومن عرف العبرة ؛ ومن عرف العبرة فأنما كان من الأولين..
فكل العناصر المعرفية المكونة لليقين تقوم على العلم ؛ فلا يقين بلا علم ؛ والعلم أس من أسس الحياة والإنسان..
والدين: قيمة أخلاقية وحالة عقلية وجدانية والتزام داخلي بالقضية يرخي نتائجه على المادة..
والعلم حالة عقلية وسيلته المادة ؛ وطريق عبوره المعرفة والتجربة ؛ والدين بتعريفه العام يأخذ ابعادا ورؤى متعددة الجوانب ويختلف تعريفه وفق واضع التعريف وما ينتمي إليه من معتقد يعتنقه ؛ أكان المعتقد إلهيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا ..
لكن الدين: هو تشريع دنيوي ديني مصدره إلهي ويمثل الخير المطلق ؛ مصدره الكتب المقدسة والرسل والأنبياء من حيث تكوينه المظهري أو بنيته الإيمانية ويمكن القول أن القرآن الكريم هو أكثر الكتب السماوية شمولية للنظامين الدنيوي والإلهي الأخروي ؛ وجعل بينهما ارتباطا لا انفكاك منه عند المؤمن إذ جعل الدنيا طريقا للعبور إلى الآخرة..
وبالتالي فهو يتضمن ضمن طيات تعاليمه الأسباب والأدوات والنتائج وبين ارتباطها بخلق الإنسان صاحب الفطرة السليمة دون أن ننسى صفة الأنبياء والرسل المتكونة من تصرفاتهم العملية المنقولة بصحة الرواية..
سئل الإمام ع: عن الخير ماهو: فقال ع: ليس الخير أن يكثر مالك ؛ ولكن الخير ان يكثر علمك..وأن يعظم حلمك ..وقال تعالى” المال والبنون زينة الحياة الدنيا”..
إن مانراه خيرا هو خير في حقيقته ابتلاء بالمال والولد؛ وإن ما تدعيه من امتلاكك للمال ليس سوى ملكية وثبات وهميه ولك منه ما تحتاجه ليومك ؛ فغدك غير مضمون قدومه ولو كنت تملك مال الدنيا..
أما العلم : فأنت مالكه بفضل ربك ، وانت ايها الإنسان كلما ازددت علما ازداد خيرك وينتفع به أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق ؛ وكلما كثر العلم في قلبك فاض خيرا لك ..
ج٤
فالعلم منارة وشعاع وضوء؛ منارة تحدد الوجهة والاتجاه الصحيح وشعاع ينير طريق السالكين وضوء يستضيء به أهل اليقين لا تؤثر فيه الرياح وشعلته لا تطفأ بالريح ولا تؤثر عليه مادة الظلمة فينير طريق الخلاص الإنساني في نفق الحياة وعتمة الأبدان ..
قال الإمام ع: فإن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق ، فلا يزيد بعده عن الطريق إلا بعدا عن حاجته؛ والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح فلينظر أسائر هو ام راجع..
فمن عُلِم بأصول العمل وعمل بما علم ارتقى بنفسه وأغناها ومنعها من شر عذاب واقع لجهله او تجاهله..
قال الإمام ع: ياكميل ..العلم خير من المال ؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال؛ والمال تنقصه النفقة ؛ والعلم يزكوا على الإنفاق؛ وطيع المال يزول بزواله ..العلم يطيب يزداد وينمو أن أعطى منه واتقى وصدق بالحسنى ؛ فصدقة المال مقطوعة؛ وصدقة العلم جارية أبد الدهر..
فالمال يزيد وينقص؛ أما العلم الذي يخرج إلى الوجود ويزكو إشارة إلى معنوية العلم ومكانته العالية في وجود الكون والإنسان .
فالعلم يحرسك ..ليس بالمعنى الخدمي بل بمعنى إيضاح الطرق وإنارة المسالك فيؤمن لك الحماية من نفسك ومن أعراض خارجية ..
وانت تحرس المال: الحراسة هنا حالة خدمية بحتة ، فحراسة الجسد بالمال فاسدة إن لم يكن محورها العلم والعقل وحراسة النفس تقوم بالإرادة والعلم والعقل؛ وحراسة المادة للمادة تدبير غريزي يزول بزوال الحاجة وبفقدان الغاية لعلة الحيلة في المال إن لم يستخدم العقل؛ والعقل قوامه العلم..
قال الإمام ع: وكل وعاء يطيق بما جعل فيه إلت وعاء العلم فإنه يتسع به.
وعاء العلم والعقل ؛ العقل قائد بامتياز بالتدبير وحاكم بين العلوم لكنه محكوم بالمعلوم كلما أعطيته معلومة او صورا معرفية أعطاك محاكمة افضل..
العلم محكوم بالمعلوم ؛ والمعلوم يعجز العقل عن اكتشافه والإطلاع عليه بكليته فكان العقل مفتوح الأبعاد وإن عجز عن تحقيق غايته ؛ ولكن إن لم تسع بالعلم نحو المعلوم فتحد مصادر العقل فيقف عاجزا لحدود معرفته..
فإن بدأنا من أصل نشأت الكون والأشياء في الكون سنبدأ من الذرة ولن ننتهي بالمجرة فوراءها ما وراءها ؛ وكم حجم المعلومات التي تبحث عنها في هذا الفضاء المعرفي الكوني من حالات قلما تتشابه حالة فيها مع حالة..كلها خاضعة للمعرفة طالبة ومطلوبة ؛ بتفاعل العلن مع العقل الفعال.
” وما أتيناكم من العلم إلا قليلا”
هل وصلَ أحدُ المهتمّين بالعلم ممّن يسمّيهم الناسُ علماءَ إلى حالٍ يشعر فيه أنّه لا يعرف شيئاً البتّة ؟!
لقد قال الإمام علي (ع) : منهومان لا يشبعان طالب علم و طالب دنيا ..
فطالب العلم لا يشبع فعلاً . و ربما يكون تفسيرُ عدم هذا الشبع في قول الشافعي :
كلما أدّبني الدّهـ. ـرُ أراني نقصَ عقلي
وإذا ما ازددتُ علماً زادني علماً بجهلي
فعلى هذا التفسير يكون مَن بلغَ درجةً عاليةً جداً في تحصيل العلم هو ذاته الذي بلغ الدرجةَ ذاتها في الإحساس العميق بجهله .
و عندما يتفوّق إنسانٌ على جميع أبناء عصره في العلم و يصبح سيّدَ سادةِ العلم يكون قد وصل بالفعل إلى حال سقراط الحكيم ( أعرف شيئاً واحداً هو أنني لا أعرف شيئاً )
و سقراطُ الذي كانت هذه الكلمةُ يقينَهُ كان أحكَمَ أهل زمانه حسب تقرير نبوءة معبد ( دلفي )ذي الأسرار والذي كان يعدُّه سقراطُ مصدراً للوحي الإلهي الذي لا يحتمل تقريرُه الخطأَ..
الذين خبروا دقائقَ خلائقِ الناس و خبزوهم وعجنوهم كما يقال .. هؤلاء يعرفون أن غالبية العلماء الذين يتحدثون عن تواضعِ معرفتهم هم في الحقيقة يرون أنفسهم كباراً في العلم وإنما يحبون أن يظهروا متواضعين أمام الناس ليرتفع مقامهم عند الناس و ليس لأنهم يعتقدون يقيناً أنهم لا يعرفون شيئاً .. و هيهاتَ أن يصل هؤلاء المتعالمون إلى القناعة القلبية اليقينية بعدم معرفتهم .. وأنّى لهم ذلك و هم بعيدون عن حقيقة المعرفة المتمثلة بسقراط الحكيم ..
عندما تصبح ذاتُ العالم هي حقيقة العلم فسوف يعيش حالَ سقراط .. و تلك من المفارقات الفلسفية الدقيقة أن يكونَ إنسانٌ أحكَمَ أهل زمانه لأنه أدرك حقيقة عدم معرفته . في حين لم يدركها أشباه العلماء من المتبجحين المتشدقين المتطاولين على الناس بوهم المعرفة لا حقيقتها …
قال شيخ المعرّة :
لم يشفِ قلبَكَ فرقانٌ و لا عِظةٌ
و آيةٌ لو أطعتَ اللهَ تشفيكَ
الجهل هو الدّاءُ و العلمُ هو الدواء و الفَهمُ هو الشفاء …
و عندما يبقى العلمُ بلا عملٍ ولا قناعةٍ يعود إلى موضع جَهْلِيَّتِهِ .
فالعلم هو الحالة الوسطى بين الداء و الشفاء
إمّا أن يتقدّم إلى مُعجز الشفاء أو ينقلب على عقبيه إلى عجز الداء .
عندما نرى صورة إنسان فإننا لا نستطيع البَتَّ بحكم ثابت إزاءه لأنه في موقع الحركيّة التي ستُفضي إلى الملائكية أو البهيمية ..
كالماشي على الصراط و هو لم يعبر بعدُ إلى الجنة و لم يسقط في النار …
و كذلك صورة العلم فهو بموقع الصراط
و لكن الله كرَّمَ العلم كما كرّم الصورة الإنسانية
لأنه جعل في العلم سبيلاً إلى الجنة كما في الحديث الشريف . كذلك الصورة مكرمة لأن الله مَلَّكَ صاحبَها طاقةً و وسعاً و استطاعة تمكِّنه من العبور إلى موضع الفهم حيث الجنة و حيث سقراطية المعرفة الموقنة بأن الله وحده هو بكل شيء عليم و على كل شيء قدير .
والسلام عليكم
رمضان كريم
العبد الفقير: غسان صالح عبدالله
التالي
6 أكتوبر، 2024
ذكرى الحرب والنصر
4 سبتمبر، 2024
صادق إسبر يطلق “مزايا” في الطبيعة
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!