علم من أعلام التصوف ولي الإسكندرية العارف بالله أبو العباس المرسي
علم من أعلام التصوف ولي الإسكندرية العارف بالله أبو العباس المرسي
كتب/ د. محمد أحمد غالى
العارف بالله أبو العباس المرسي هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسن بن علي الخزرجي الأنصاري المرسي، ولد فى الأندلس وبالتحديد في مدينة مرسية والتى حصل منها على لقبه المرسي، كان مولده في عام ٦١٦ هـ الموافق ١٢١٩م، يتصل نسبه بالصحابي الجليل سعد بن عبادة، وكان جده الأعلى قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر من قبل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عام ٣٦ هـ. كان والده يعمل في التجارة وكان ميسور الحال فتمكن من إرسال إبنه إلى معلم كي يعلمه القراّن الكريم والفقه، أتم أبو العباس المرسي حفظ القراّن الكريم كله في عام واحد، وتعلم القراءة والكتابة وأصول الفقه، وكان مستغرقا بقلبه ومشاعره ووجدانه في ذكر الله فكان شغله الشاغل أن يتقدم كل يوم خطوة في طريق الحق والحقيقة والخشوع، وكان قدوة للشباب في التمسك بمكارم الأخلاق والعروة الوثقي ورعاية حقوق الله، فقد كان كثير الصيام كثير القيام، ويمسك لسانه عن اللغو واللمم. شارك أبو العباس والده في التجاره، فكان رضي الله عنه تاجرًا أمينا صدوقا نزيها عفيفا يتصدق بأمواله على الفقراء والمساكين، كان يربح مئات الاّلاف، ويتصدق بمئات الاّلاف، وكان قدوة لتجار عصره في التأدب بأدب الدين الحنيف.
حينما كان فى الـخامسة والعشرين من عمره، اعتزم والده الحج إلى بيت الله الحرام فصحب معه أبو العباس وأمه وأخيه. فركبوا جميعا البحر عن طريق الجزائر حتى إذا كانوا بالقرب من شواطئ تونس هبت رياح عاصفه أغرقت المركب بمن فيها، غير أن عناية الله تعالى ورعايته أدركت أبو العباس المرسي وأخيه، فقد نجيا من الغرق فقصدا تونس وأتخذها داراً لهما. وهناك تعرف أبو العباس على أبى الحسن الشاذلى.
قال الإمام المرسي : “لما نزلت بتونس وكنت أتيت من مرسية بالأندلس وأنا إذ ذاك شاب سمعت بالشيخ أبا الحسن الشاذلي فقال لي رجل نمضي إليه فقلت حتى أستخير الله، فنمت تلك الليلة فرأيت كأني أصعد إلى رأس جبل فلما علوت فوقه رأيت هناك رجلا عليه بُرنس أخضر وهو جالس عن يمينه رجل وعن يساره رجل فنظرت إليه فقال عثرت على خليفة الزمان قال فانتبهت فلما كان بعد صلاة الصبح جاءني الرجل الذي دعاني إلى زيارة الشيخ فسرت معه فلما دخلنا عليه رأيته بالصفة التي رأيته بها فوق جبل زغوان، فدهشت فقال الشيخ أبا الحسن الشاذلي: عثرت على خليفة الزمان، ما اسمك؟ فذكرت له اسمي ونسبي فقال لي رفعت إليْ منذ عشر سنين”.
ومن يومها وهو يلازم الشيخ أبا الحسن الشاذلي ورحل معه إلى مصر. في عام ٦٤٢ هجرية، ١٢٤٤م، رأى الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالإنتقال إلى الديار المصرية فخرج من تونس ومعه أبو العباس المرسي وأخوه عبد الله وخادمه أبو العزايم ماضي قاصدين الإسكندرية، وكان ذلك فى عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب.
قال أبو العباس المرسي رضى الله عنه : “لما قدمنا من تونس إلى الإسكندرية، نزلنا عند عمود السواري وكانت بنا فاقة وجوع شديد فبعث إلينا رجل من عدول الإسكندرية بطعام فلما قيل للشيخ عنه قال لا يأكل أحد من شيء من الطعام فبتنا على ما نحن فيه من الجوع، فلما كان عند الصبح صلى بنا الشيخ وقال أحضروا ذلك الطعام ففعلوا، وتقدمنا فأكلنا فقال الشيخ : رأيت في المنام قائلا يقول أحل الحلال ما لم يخطر لك ببال، ولا سألت فيه أحد من النساء والرجال”.
وصحَّت صحبة أبي العباس المرسي لشيخه الشاذلي، وصار من بعده إماماً للطريقة الشاذلية، وكان قبلها قد تزوج أبو العباس من كريمة الشاذلي وأنجب منها محمد وأحمد وإبنته بهجة التي تزوجت من الشيخ ياقوت العرش وكان من تلاميذ أبيها ومريديه. أقام أبو العباس المرسي رضى الله عنه بالإسكندرية أربعة وأربعون عاما ينشر العلم ويربي المريدين ويهذب النفوس ويقوم الأخلاق ويضرب المثل بورعه وتقواه. وقد تلقى العلم على يدي أبو العباس وصاحبه الكثير من علماء عصره كالإمام البوصيري وابن عطاء الله السكندري و ياقوت العرش والعز بن عبد السلام وابن أبي شامة وابن اللبان وغيرهم . بعد وفاة أبي الحسن الشاذلي عام ٦٥٦ ه الموافق ١٢٥٨م، تولَّى أبو العباس مشيخة الطريقة الشاذلية، وكان عمره آنذاك أربعين عاما. وظلَّ يحمل لواء العلم والتصوف حتى وفاته، بعد أن قضى أربعةً وأربعين عاماً في الإسكندرية، سطع خلالها نجم الطريقة الشاذلية في الآفاق.
من أقوال أبو العباس المرسي رضي الله عنه وأرضاه : “من عرف نفسه عرف ربه”
وكان يقول : ” سمعت سيدي أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه يقول : من ثبتت ، ولايته من الله تعالى لا يكره الموت ، وهذا ميزان للمريدين ليزنوا به على نفوسهم إذا ادعوا ولاية الله فإن من شأن النفوس ، وجود الدعوى للمراتب العالية من غير أن يسلك السبيل الموصل إليها قال تعالى : ” فتمنوا الموت إن كنتم صادقين “
وكان يقول : “ رجال الليل هم الرجال ، وكلما أظلم الوقت قوى نور الولي “
وكان يقول : ” الطيء طيان على أصغر ، وطي أكبر فالطي الأصغر لعامة هذه الطائفة أن تطوي لهم لأرض من مشرقها إلى مغربها في نفس واحد والطي الأكبر طي أوصاف النفوس “
وكان يقول أيضا : ” من أحب الظهور فهو عبد الظهور ، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء ، ومن كان عبدآ لله فسواء عليه أظهره أو أخفاه “
وقال أيضا : ” قد يكون الولي مشحوناً بالعلوم ، والمعارف ، والحقائق لديه مشهورة حتى إذا أعطى العبارة كان كالإذن من الله تعالى في الكلام ، ويجب أن تفهم أن من أذن له في التعبير جلت في مسامع الخلق إشاراته “
ومن أشعار أبو العباس المرسي رضي الله عنه:
وإذا أردت مـــــن الســـــلوك أجــــله
فالزهد في الدنيا مع السمت الحسن
واعـبـد إلهـك حـيـث كـنت على الرضا
تـحـظـى بـمـا قـد نـاله أهـل المـنـن
أهــل الولايــة والهـدايـة والتـقـى
هـم سـادتـي فـبـهـم أصول على الزمن
أمــحــمــد لا تــنـسـى عـيـشـك مـنـهـم
أشــهـده روحـك أذ بـهـا قـام البـدن
واجــعــله مــنــك لذاتــه مــن وصـفـه
تـجـد التـحـقـق فـي السريرة والعلن
واللّه يـــعـــلم انـــنـــي لك نــاصــح
لا مــدحــة أبــغــى بــذاك ولا ثـمـن
واللّه حـــســـبــي والمــؤيــد ربــنــا
وهـو المـعـيـن على الأمور كما ضمن
وبعد عطاء كريم فى حياة كريمة حافله بالعلم والأخلاق والتقوى والإيمان توفى أبو العباس المرسي في ٢٥ ذو القعدة سنة ٦٨٦ هـ ودفن في الإسكندرية في مقبرة باب البحر، ومسجده الآن معروف ومشهور، رحم الله الإمام أبو العباس المرسي ورضي عنه وأجزل له العطاء .