بقلم الأديب المصرى د. طارق رضوان جمعة
أمرنا النبي ﷺ أن نتعوذ من الشقاء، فعن أبي هريرة – قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:
“تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِن جَهْدِ البَلاءِ، ودَرَكِ الشَّقاءِ، وسُوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأعْداءِ” (صحيح البخاري)،
الكثير منا يعتقد أن الكتابة وسيلة لتفريغ الاحتشاد النفسي ،
لكن الحقيقة أن الكتابة ما هي إلا صناعة الاحتشاد وتأكيده.
فالكتابة تبرز جراح الأمم وتظهرها وتعمل على علاجها مثلما يقوم الجراح الماهر بالكشف عن المرض الخبيث واستئصاله،
كذلك يفعل الكاتب بقلمه في استئصال فساد المجتمع.
مشكلة الشقاء ليست بمشكلة فردية يمكن تجاهلها،
ولكنها مشكلة تعوق تقدم الأمم وبناء الحضارات .
فصحة الفرد هى صحة المجتمع وسر نجاحه.
ومقالي هذا يهدف إلى إظهار حقيقة راسخة وهى أنّ الحاجة الاجتماعية أساسية للتقدم في الحياة.
فما هـــو الشقاء؟ وما الهدف من رواية “الشقاء” لأنطون تشيخوف؟
هو كل شىء يقوم به الإنسان زائد عن قدراته. فإذا وضع التعب يده على أهدابك ،
لا تدعه يضع يده على أحلامك .
ويحضرنى قول ستيف تشاندلر حين قال : إن إرهاقك ليس سببه هو ما تفعله وإنما ما لا تفعله فالمهام التي لا تنجزها تسبب لنا أكبر قدر ممكن من التعب.
فالإقدام على التعب هو قمة الراحة. والهرب من الموت موت.
تُعدّ قصة “الشقاء” من القصص الواقعية في الأدب،
والتي تصوّر معاناة الإنسان في البحث عن التعاطف والمشاركة داخل مجتمع لا يبالي،
وفي وسط بشر مشغولين دائمًا بأنفسهم غير مستعدين للعطاء ولو بالوقت والاستماع.
تُرى هل شعرت يوماً بيأس من المحاولات القاتلة لاستجداء العواطف من الأخرين دون جدوى؟ هل كان لهذا ظلمة في صدرك؟
هل مررت حينها بجو بارد قارس رغم سطوع الشمس حولك؟
وكأن البرودة التى شعرت بها أنا أو أنت من حولنا هى برودة العالم وأهله،
هؤلاء الناس الذين عجزوا عن مشاركتنا مشاعرنا وتركونا فريسة للوحدة.
تركونا نجلس على اشواك حزننا، بل أقصى ما نتمناه هو أن يمر يومنا بسلام رغم مرارة الوحدة وقسوة الأشواك نحمد ربنا ونستعين به.
نعيش ونحن بحاجة إلى الكلام، إلى من يسمعنا وكأننا في حالة ظمأ لا ينتهى،
وكأننا في حاجة إلى الارتواء ويبخل علينا به من اعتقدنا أنهم أوفياء.
وصارت أفكارنا حبيسة صدورنا.
ويحدث أن تمر على الإنسان لحظات يتخيل فيها أن سعادته في التخلي عن جميع البشر،
لحظات يظن أنه في أمان حين يعتكف عن الأخرين،
فيشعر أنه في عالم سحري معتنقاً لمبدأ الناس داء وداء الناس قربهم ومتجاهلاً لحقيقة أن في اعتزال الخلق قطع المودات.
فإلى ماذا يسعى جاهداً، ساخراً من قوانين الطبيعة؟
يسعى للحصول على نشوة حب أو لذة عبادة أو ربما يبحث عن لحظة تأمل نفسى.
فما سر الشقاء الإنساني؟ وهل الشقاء صناعة؟ وهل له أشخاص يتقنون هذه الصناعة؟
يقول البعض أن الشقاء البشرى يعود إلى عجلة الإنسان فى إنجاز أحلامه وصراعه مع الزمن فصرنا مسرفين فى الضوضاء على حطام الهدوء النفسي.
ولكن ما فائدة هذا السلام النفسي الداعي إلى اعتزال العالم إذا ما قيس بلذة ومتعة النفس البشرية حين تعانى من ضجة عربة الخبز التي تعمل على إطعام الجياع؟
وسر الحياة النفسية السوية يكمن فى حالة القبول والرضا والانسجام مع كل ما يحدث،
وهى حالة إيمانية تغمر عقل وقلب المؤمن.
فهو يرى الدنيا كدار ضيافة عابرة. طهر نفسك من الأغبياء من حولك ممن يزيدوا من شعورك بالإحباط والشقاء.
جدد طاقتك بمعرفة الأسوياء نفسياً. فأنت فى الدنيا ضيف،
وهى مسألة حسابية نطرح منها التعب والشقاء ونجمع منها الحب والوفاء.
وهناك من يتفنن فى نشر الشقاء والإحباط بين أفراد المجتمع.
فهم أدوات تصنع المتاعب باستمرار. هم من ينشرون التفكير السلى بيننا.
لذلك هم يسهمون بصناعة شقاء المجتمع، حيث يعيش الناس في أجواء محتقنه خانقة، لا تنتمي لروح الترفيه،
ولا تساعد على الابداع والارتقاء بالمواهب او الطاقات الفاعلة،
فيذهب الشقاء وصانعوه الى تدمير القيم الجيدة في المجتمع،
ومن أسباب الشقاء أيضًا ذلك الوهم الكاذب المُسيطر على عقول الكثيرين وأرواحهم.
يكون الواحد منهم سعيدًا في حاضره، فيأبى التمتع الطيب الطاهر المُطمئن بما هو فيه،
بل يذهب مُفكرًا في المستقبل، والغيب شيء استأثر الله بعلمه،
ويتساءل المرء ليُنَغِصَّ على نفسه بنفسه حياته: هل سأكون كذلك في المستقبل؟
فلا هو انتفع بما في يده، ولا استطاع أن يخترق حُجُبَ الغيب؛ وذلك من ضلال الرأي وسوء التصرف.
إننا وفقا لما تقدم نحتاج الى تعميق قيمة مناقضة لقيمة صناعة الشقاء،
بمعنى أوضح نحن نحتاج الى تفعيل وتعميق قيمة صناعة السعادة.
قصتنا اليوم عن الشقاء للرائع أنطون تشيخوف وبطلها “أيونا بابتوف” الرجل المسنّ الفقير الذي كان قد فقد ابنه منذ أسبوع،
ولكن بسبب صعوبة العيش والفقر يضطر إلى الذهاب إلى عمله،
وهو قيادة المركبة التي يجرّها الحصان،
وبسبب أنّ قلبه مكلوم بالفقد والحزن يعتصره يودّ لو أنّ أحدًا من الركاب الذين ينقلهم يستمعون إلى قصته ويبدأ الرجل المسنّ بالبوح عن الألم الذي يشعر به،
لكنه لا يجد الاستماع والتعاطف اللذين كان ينشدهما من النّاس،
حتّى إنّه كان ينقص من أجرة بعض الرّكاب أحيانًا رغم عَوَزه للمال،
ولكن فداء للتعاطف الذي يحتاجه في أزمته،
وبعد أن يشعر بالخذلان واليأس من أن يلقى الدعم من الرّكاب الذين لم يكونوا يفكرون سوى في وجهتهم،
يقرّر الشكوى إلى حصانه الذي يبدي استعداده للاستماع.
تُرى هل شعرت يوماً بيأس من المحاولات القاتلة لاستجداء العواطف من الأخرين دون جدوى؟
هل كان لهذا ظلمة في صدرك؟ هل مررت حينها بجو بارد قارس رغم سطوع الشمس حولك؟
وكأن البرودة التي شعرت بها أنا أو أنت من حولنا هي برودة العالم وأهله،
هؤلاء الناس الذين عجزوا عن مشاركتنا مشاعرنا وتركونا فريسة للوحدة.
تركونا نجلس على اشواك حزننا، بل أقصى ما نتمناه هو أن يمر يومنا بسلام رغم مرارة الوحدة وقسوة الأشواك نحمد ربنا ونستعين به.
نعيش ونحن بحاجة إلى الكلام، إلى من يسمعنا وكأننا في حالة ظمأ لا ينتهى،
وكأننا في حاجة إلى الارتواء ويبخل علينا به من اعتقدنا أنهم أوفياء.
وصارت أفكارنا حبيسة صدورنا.
بتحليل شخصيات قصة “الشقاء” تجد إيونا: وهو الشخصية الرئيسة في القصة،
رجل كبير في السنّ يبدو على مظهره الشقاء والفقر، بداخله أسىً كبير بسبب فقدانه لابنه بشكل مفاجئ،
وتملأه الحاجة النفسية إلى كسب تعاطف الناس والتحدث معهم. ضابط الشرطة: الذي يسأل عن الطريقة التي مات بها ابن إيونا،
ثم يختفي تعاطفه المؤقت ليطلب من إيونا أن يجعل عينيه على الطريق ويتحرك،
لأنه شخصية غير مبالية بمشاعر الآخرين.
ثلاثة شبان ركّاب: يبدأ الرجل القصير بينهم في السخرية من فقر إيونا ومظهره وثيابه،
وعندما يخبرهم بوفاة ابنه يقولون: كلّنا سنموت متجاهلين بذلك حزنه،
شخصيات غير مكترثة تملأها القسوة، والرغبة في التنمر على الآخرين.
الحصان: ويكمن دوره في القصة عدا عن كونه محرّك العربة التي يعمل عليها إيونا،
في أنه الشخصية الوحيدة التي استطاع البطل التحدث إليها عن حزنه،
معبرًا بذلك عن أنّه لم يجد الخير المنشود في البشر ولقيه عند الحيوان.
تهدف هذه القصة إلى جعل الإنسان اللامبالي منتبهًا وواعيًا لمعاناة الآخرين،
فقد بيّن تشيخوف أنّ في قلب البشر جميعًا ما يجعلهم مثيرين للشفقة.
تقدم القصة بناءً على البؤس الواقعي الذي قدمه تشيخوف نصيحة للبشر أجمعين أنّه لا بد أن نكون رحماءَ ببعضنا بعضًا،
وإن لم نستطع المساندة بالفعل فقد يكون كافيًا ألّا نزيد من معاناة الآخرين.
يطرح تشيخوف فكرةً تنتهي بها القصة قد تكون مؤذية في حدث لجوء إيونا إلى الحديث مع حصانه،
أنّ الحيوانات قد تكون رحيمة بالإنسان وداعمةً له أكثر من بني جنسه.
إن تعبت في الخير فإن التعب يزول والخير يبقى ،
وإن تلذذت بالآثام فإن اللذة تزول والآثام تبقى…” أفلاطون”