بقلم :لطيفة محمد حسيب القاضي
لقد تبوأت فلسطين من الوعي القومي العربي منزلة عز وفخر في صميم الوجدان وسرة الأمة الإسلامية، فكانت أولى الأولويات ومقدمة الاهتمامات، ولا تزال كذلك جوهرة وعنوانا لامتداد الوطن العربي وتآزره. وهي جزء من خارطة الوطن وشطر لا ينصف من الأمة العربية. ويذكر التاريخ أسوء أيامه، يوم الخامس عشر من أيار/مايو عام 1948 حين اندلعت الحرب بين العرب وإسرائيل وانتهت بنكبة وحزن كبيرين بعد إعلان قيام دولة إسرائيل المزعومة فكان هذا الحدث بداية أسطورة التأسيس الظالم للكيان الصهيوني، وظل راسخا في الذاكرة الجماعية للإسرائيليين بعد نجاح تصديرها للعالم الغربي وطمس الحقائق لتحويل فلسطين العربية الشريفة إلى كيان صهيوني ولو على حساب ألم شعبها وتشرده وتحويله لاجئين إلى كافة بقاع الأرض بعد أن أصبح عالمهم بلا عدل ووطنهم بلا حق وهويتهم بلا مستقبل وحين شطب طغيان المستعمر بلد فلسطين من الواقع والذاكرة.
وتعتبر النكبة الفلسطينية تلك انكسارا في التاريخ العربي، لأن التاريخ بعد النكبة صبح خلافا لعروبة الفكر. ولا تزال عجلة الزمان تمضي مسرعة؛ فالأيام تطوى والشهور تنتهي، والفلسطينيون يحلمون بالعودة إلى فلسطين التاريخية رغم الجراح والدم النازف والآهات، والآلاف من الأسرى الشجعان ومرور ما يقارب القرن زمانا ونحن على أعقاب العقد الثمانين من ذكرى النكبة الفلسطينية التي يجب علينا أن نجعلها درسًا للبناء الوطني والوعي الجمعي علنا نستطيع إنشاء برنامج موحد وطني وقيادة
ضمن استراتيجية تؤمن بالنهوض والكفاح والنضال .
كهدف أساس ولا مناص منه.
تمر إذن ذكرى النكبة ولا تزال الأراضي الفلسطينية مخضبة بدماء الشهداء الطاهرة النقية التي صبغت دماء أرض فلسطين الأسيرة، ورغم تراكم القرارات؛ والاتفاق عقب الاتفاق، لكن تظل حبرًا على ورق وبعيدا عن الشرعية الدولية والقيم الإنسانية، ومع توسع الاستيطان أكبر، والتوغل الأعمق، وتدمير البنية السياسية والاقتصادية، زاد نزيف الدم الفلسطيني المذبوح في ذكرى النكبة لينتهي بتعقيدات سياسية أكثر .
(تشديد الحصار الداخلي والخارجي)
يقام احتفال ذكرى النكبة من كل عام ويعتبر احتفالاً وطنيا للفلسطينيين اللاجئين في المهجر لأنها تعبر وترمز على الحزن الشديد للتهجير الجمعي والطرد القسري والقتل؛ لذا جاءت النكبة بعد الهزيمة التي لحقت بالفلسطينيين والعرب، وكانت النتيجة قاسية ومريرة وأليمة، وهي التشرد وسيطرة اليهود على أراضيهم، كما أن تداعيات النكبة كبيرة على الشعب الفلسطيني؛ فكانت الهجرة قمة التراجيديا في حياة الشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه مشردا مطرودا من أرضه ووطنه قسرا تحت زخام الرصاص المتطاير ودوي القنابل والقصف العشوائي المستمر حينها ضاعت فلسطين وجاء الاحتلال مفرقا بين الأهل والأحبة
ولم يكتفي الاحتلال بذلك، بل اتبع سياسة الحصار الداخلي والخارجي؛ فالداخلي حصار عن العالم حتى يظل الفلسطيني داخل الأسوار والأسلاك الشائكة بعيدًا عن المحيط العالمي وثقافته وأعلامه، أما الخارجي فيتمثل في كبت الفلسطينيين والمعاملة السيئة التي يتلقاها الفلسطيني في الدول العربية المقيم بها والاضطهاد ومعاملته كلاجئا، وباتت الدول التي فيه اللاجئين غير مرحبة ورافضة لهم على الرغم من الظلم الذي لحق بهم .
(ركام الذكريات للفلسطينيين )
فإن ركام الذاكرة ذاخر بتنظير الأفكار، وبالمعطيات الظالمة والمشوهة للمحتل؛ لأنه لا يتاح لأي وطني من ممارسة النضال ورفع السلاح في وجه المحتل من أجل إنسانية الإنسان والمقاومة. لأن الاحتلال يستخدم أبشع أنواع وسائل الإجرام لدفع الفلسطينيين نحو ترك وطنهم ومع تزامن ذكرى النكبة، قتلت الصحفية والإعلامية الفلسطينية “شيرين أبو عاقلة”؛ حيث أنها قتلت أثناء تغطيتها عملية للجيش الإسرائيلي في مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، وقد كان القتل قنصًا بدمٍ بارد أثناء تأديتها لعملها الصحفي، وشيرين ليست الأولى من الصحفيين الذين نالتهم يد العدو؛ بل من قبلها قتل الكثير من الصحفيين أثناء نقل الأحداث الإرهابية والانتهاكات التي يقوم بها الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني .
(سياسة تهجير الفلسطينيين )
وحينها كان التهجير الذي حدث في النكبة بمثابة نشاط عدائي للأيديولوجيا العنصرية، ومما لا شك فيه، أن الإسرائيليين كان هدفهم الأول إخراج شعب فلسطين من أرضهم كما هو ثابت في عقيدتهم الصهيونية التي تنص على إخلاء السكان الأصليين
من ديارهم للاستيطان اليهودي مكانهم.
(إنكار النكبة)
على أية حال، يحاول الإسرائيليون إنكار النكبة. لكن كيف ينكرونها وهي حاضرة في الرواية الشفهية والذاكرة الجمعية للأجيال التي عايشتها، وأن كثير من الشباب يبحثون عن معرفة تاريخ المدن التي هم منها، وكانت الرواية الصهيونية تقول (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وتزعم بخروج الفلسطينيين من التاريخ والجغرافيا؛ فيحاول الإسرائيلي التصدي للرواية الفلسطينية من خلال المنع من إحياء ذكرى النكبة وتجنيد الأقلام التي تكتب لمصلحتهم ضد الرواية الفلسطينية أملاً في تماسك الرواية الصهيونية.
(حق العودة)
جاء قرار ١٩٤ ويتضمن حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم، وهو حق تاريخي وشرعي وينضوي على حق الفلسطيني في تحقيق مصيره وحق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف ضمن ضوابط إنسانية.
(الإعلام الإسرائيلي )
ومن هنا، يعمد الإعلام الإسرائيلي بكتابة مقالات مشوهة تصف تاريخ فلسطين بشكل صهيوني بحت واستبعاد النكبة دون أدنى مسئولية حتى يصلو إلى مساعيهم ونيل الشرعية من خلال خطابهم وطمس الخطاب الفلسطيني عن طريق كتابة التاريخ المزيف للحقائق؛ إذ ارتكزت الرواية الصهيونية على إنكار النكبة والتعامل معها كابتداع وتزوير للتاريخ، وأيضا التعامل معها كحدث مأساوي مستمر حتى يومنا هذا، وأن ذكرى النكبة تهديد متواصل لنزع الشرعية والحق منهم والإعلام الصهيوني ينكر ويتنكر للنكبة بناء على أيديولوجيات سياسية والبعض الأخر منهم على أساس أسباب استراتيجية أو دبلوماسية.
ومن هنا جاء الإعلام الإسرائيلي يبتكر الروايات ويصيغها
في التأكيد للإعلام الغربي أن النكبة ضرب من ضروب” اللاسامية “، وأن عودة اليهود إلى فلسطين وارتباطهم بها، يعتبر جزء من عقيدتم الدينية، وأنها رواية المنتصر. ولتثبت الرواية القائلة بأنهم دخلوا في حرب ضد الاحتلال البريطاني والعرب، فكانوا يفوقوهم في العدد والعدة وكان الانتصار لهم، وبالتالي فإن الفلسطينيين غادروا لأن القادة العرب المنخرطين في الحرب طلبوا منهم ذلك مؤقتا غاية أن تنتهي الحرب.ومن ثم يرجعوا إلى بلادهم بعد تحقيق النصر.
(الرواية الإسرائيلية )
من بديهيات الأمور أن تنشأ رواية فلسطينية تفصيلية عن الصراع الوطني والقومي مناهضة للرواية الإسرائيلية بناء على شواهد حقيقية ثابتة.
ومن المفيد أن كل ما سبق لا يطرح قضية عودة اللاجئين، وبعد قيام دولة إسرائيل جاءت الرواية الرسمية ترسل صورة مثالية لأهداف تسويق الدولة الجديدة لدى يهود العالم، وهكذا تم طمس الحقائق التاريخية بدون أي شعور بالمسؤولية وكل هذا يصب في خدمة المصالح الصهيونية. ومن أبرز الروايات الإسرائيلية في النكبة أنهم عملوا على تحييد كل ما هو شاذ وتشويه التاريخ، ولقد سميت هذه الروايات بالأساطير الصهيونية واعتبروها وسيلة لتحقيق نبوءة ربانية فكان واجبا وطنيا ودينيا لذلك لا ترى الرواية الصهيونية مكانا لغير اليهود وطرد الأغيار منها. ولهذا السبب، دمر الصهاينة أكثر من 400 قرية فلسطينية وقت النكبة حتى تترسخ القيم الصهيونية العنصرية المبنية على أسطورة “شعب الله المختار” وسياسة احتقار الفلسطيني. فجاء المؤرخون الجدد ليؤكدوا على الرواية العربية الفلسطينية ولو حتى بطرق غير مباشرة .
(الصهيونية هي حركة “كولونيالية “ )
يؤكد المؤرخون العرب أن الصهيونية هي حركة (كولونيالية ) استعمارية، وأن عملية الهجرة الصهيونية إلى فلسطين هي إقرار فعلي وعملي لأسس الاستعمار، وأن حرب 1948 هي جزء من عمليات التطهير العرقي للسكان الأصليين وإحلال المهاجرين مكانهم وعلى أرضهم .وقد انتج المؤرّخون الصهاينة روايات وكأنها صحيحة حسب الفكر الثقافي الإسرائيلي العام إضافة لذلك، عملوا على تمجيد قادة عسكريين إسرائيليين نفذوا مجازر ضد الفلسطينيين وجرت تكتيكات وسيولوجيا الصراع من أجل تحقيق الغاية. ومن جهة أخرى أكد مؤرخون إسرائيليين شباب أرادوا أن يكتبوا سيرورة الوعي التاريخي لدولتهم العبرية والهدف من ذلك تغيير الذهنية والتصورات الإسرائيلية المعاصرة التي تقود إلى ولادة دولة إسرائيلية، وذلك عن طريق التضليل الإعلامي الرسمي لاسيما فيما يتعلق بالعنف الذي يمارسونه ضد الشعب الفلسطيني من أجل إقامة دولة إسرائيلية بأي ثمن.
(النكبة الثقافية لتاريخ فلسطين )
وإذا تحدثنا عن النكبة الثقافية لتاريخ النهب والسرقة، والبيع لتوضيح استراتيجيات وآليات الإخفاء والتزوير وكثير من الأكاذيب والمغالطات التى ذكرتها الموسوعة اليهودية بعد النكبة؛ حيث يريدون إضلال المفاهيم الفكرية والعقائدية والسياسية للشعب الفلسطيني، ومن هنا فقد ظهر الكُتاب بكثرة بعد النكبة مباشرة، وذلك بسبب سيطرة الإمبريالية الغربية على مختلف الأفكار والآليات. وكل هذا أنشأ لدى الفلسطيني الحاجة الماسة إلى المعلومات المكتوبة، حيث أنهم جمعوا 15,000 كتاب في فرع لبيت الكتب القومي والجامعي، ومن ثم أعيرت الكتب للمكتبة الوطنية إعارة دائمة رغم أن الاحتلال قام بنهب الوثائق والمخطوطات والكتب حتى يضلل العالم؛ فقد نظر الصهاينة للفلسطيني نظرة إنكار لوجود فلسطين كأصلانيين ومن مظاهر المحو الثقافي بعد النكبة، محو مادي ومعنوي وتراثي وتاريخي والآثار والعمران وهذا منهجهم من أجل إنشاء كيان سياسي على حساب الجغرافيا الفلسطينية. ولقد بُترت النهضة الفلسطينية مع الهزات التي خلفتها النكبة؛ إذ نجم عنها فقدان مجموعات كتب وقصص خاصة وعامة وذهاب القصص مع ذهاب الناس الذين حملوا معهم الحقيقة في الذاكرة. وفي خضم تلك الأحداث قضت عمليات النهب والسرقة أثناء حرب النكبة وما بعدها على قسم كبير من الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
(مظاهر المحو والإنشاء )
ظهر الوجود اليهودي من خلال قيام الحركة الصهيونية السياسية الجغرافية على الأرض الفلسطينية بعد استكمال عمليات المحو الفكري والثقافي للاصلاني، وكل ما حدث للكتب كان بمثابة خطوات، ومراحل للمحو والإنشاء وتحويل ذكرى النكبة إلى ذاكرة فلكلورية عديمة المدلولات السياسية أو القانونية، حتى كانت تجرد الفلسطيني وتمنع العالم من رؤيته كضحية لسياساتها. وقد تنصل اليهود من أي ذنب يتعلق بالنكبة، لأن أي مسؤولية سوف توقعهم وتعزز المطالبة بحق العودة للاجئين العرب إلى بلادهم.
(سيتحقق الحلم)
لهذا كله، لابد من وقفة جادة أمام الانتهاكات التى تمارس ضد الشعب الفلسطيني والعمل على مساندة تقرير المصير، لأن فلسطين من بحرها إلى نهرها وبكل مدنها وضواحيها المحتلة تعيش فينا وبنا، وتعشعش في قلوبنا وأرواحنا، حب فلسطين هو حب سرمدي خالد في قلوب كل فلسطيني يحب الوطن، وكيف لا وهي الأراضي المقدسة والمباركة حتما يومًا سنعود ويتحقق الحلم مهما كان الليل طويلا، فلابد من بزوغ فجر الحرية والنصر؛ لأن الاحتلال إلى زوال مهما طمسوا صوت الحقيقة التي تفضحهم، وسوف نعود قريبا وتعود فلسطين التاريخية.