غير مصنف
رسالتي إلى الباحثينَ .
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
إلى كلِّ باحثٍ تاقتْ نفسه إلى الدرجاتِ العُلى ، ولم يقنعْ بما دونَ الثُريَّا ، ولم يخلدْ إلى الأرضِ بل رامَ التحليقَ في سماءِ البحثِ العلمي ، اعيروني القلوبَ والأسماعَ ؛ لأُسدي إليكم نصيحةَ من خاضّ الغمارَ قبلكم .
اعلموا – رعاكم اللهُ – أنَّه لا يوجدُ أشرفُ من العلمِ ، وبه فُضَّلَ آدمُ – عليه السلامُ – إذ لم يُفضَّلْ باعتبارِ الجاهِ ، أو السلطانِ ، أو النفوذِ ، أو المالِ ، أو الجسمِ ، إنَّما فُضَّلَ باعتبارِ العلمِ ، وكفى بالعلمِ شرفاً – كما قالَ الإمامُ عليُّ – رضي اللهُ عنه – أن يدَّعيه من ليسَ يحسنه ، ويفرحُ به إذا نُسبَ إليه …” ، وإذا كان لا يوجدُ أشرفَ من العلمِ ، فلا يوجدُ أشرفُ من طالبيه ، هاماتهم مرفوعةٌ ، ومقاماتهم على آرائكِ الاحترامِ والتبجيلِ موضوعةٌ ، وللهِ درُّ القائلِ :
كفى بالعلمِ في الظلماتِ نوراً
يبيَّنُ في الحياةِ لنا الأمورا
فكم وجدَ الذليلُ به اعتزازاً
وكم لبسَ الحزينُ به سروراً
أيها الباحثونَ ، رفعكم اللهُ بعلمكم ، فلا تضعوا أنفسكم ، وأغلى نفوسكم فلا ترخصوها ، ورفعَ أقداركم فلا تضعوها بطلبِ العلمِ لدنيا تصيبونها ، أو بقربةٍ لدى ذي سلطانٍ ، فلقد روى أبو نعيمٍ في الحليةِ يإسناده عن جعفر الصادقِ أنه قالَ :” الفقهاءُ أمناءُ الرسلِ ، فإذا رأيتم الفقهاءَ قد ركنوا إلى السلاطينِ فاتهموهم ” .
أيها الباحثونَ ، لا تعلَّموا العلمَ لتباهوا به العلماءَ – كما قالَﷺ- ، أو لتماروا به السفهاءَ ، أو لتصرفوا وجوهَ الناسِ إليكم فمن فعلَ ذلك فهو في النارِ ” رواه ابنُ ماجه في صحيحه .
أيها الباحثونَ ، صحِّحوا نواياكم يعلُ شأنكم ، واشحذوا هممكم ، وقوُّوا عزائمكم ، ترقوا إلى العلياءِ .
أيها الباحثونَ ، اطلبوا الحكمةَ فهي ضالتكم المنشودةُ ، وخذوها من مظانها المعهودةِ ، ولا تبالوا بأي فمٍ قيلتْ ، ولا بيّدِ أي كافرٍ نُقلتْ .
أيها الباحثونَ ، استضيئوا في طريقكم بنورِ الوحيينِ – الكتابِ والسنةِ – فمن لم يقتبسْ من نورهما ، وينهلْ من معينهما ضلَّ ، ومن لم يجعلْ اللهُ له نوراً فماله من نورٍ .
أيها الباحثونَ ، يقولُ أبو حيِّان التوحيدي :
إذا رُمتَ العلومَ بغيرِ شيخٍ
ضللتَ عن الصراطِ المستقيمِ
فاختاروا لتعليمكم شيوخاً ثقاتٍ ، مؤهلينَ ، متمكِّنينَ ، عالمينَ وعاملينَ بعلمهم ، ولا يغرَّنكم طولُ اللُحى ، أو أحجامُ العمائم ، ولا تحكموا بالمظهرِ حتى يتبيَّنَ لكم المخبرُ .
أيها الباحثونَ ، لا تعرفوا الحقَّ بالرجالِ ، ولكن اعرفوا الرجالَ بالحقِّ ، ولا تجركم العاطفةُ إلى تأييدِ من ليسوا على الحقَّ ، لكونكم تحبونهم ، واجعلوا الحقَّ أحبَّ إليكم منهم ، ولا يجرمنكم شنآنُ قومٍ على الجنايةِ عليهم ، بل كونوا منصفينَ ترشدوا وتهتدوا .
أيها الباحثونَ ، ليكنْ رائدكم الدليلُ ، دوروا معه حيثُ دارَ ، وخذوا به متى اتضحَ لكم واستنارَ ، وتذكروا أنَّ العلمَ – كما قالَ أحدُ الحكماءِ – سراجٌ يجلي الظلمةَ ، وضياءٌ يكشفُ العمى . التذللُ مكروهٌ إلا في استفادته ، والحرصُ مذمومٌ إلا في طلبه ، والحسدُ منهيٌّ عنه إلا عليه ” .
أيها الباحثونَ ، تذكَّروا أن العلمَ – كما قالَ الإمامُ عليُّ لكُمَيْلِ – خيرٌ من المالِ؛ العلمُ يَحرسُك وأنت تَحرُسُ المالَ، والعِلمُ يزكو على الإنفاقِ، والمالُ تَنقُصُه النفقةُ، ومَنفعَةُ المالِ تزولُ بزوالِه.
يا كُمَيْلُ، محبةُ العالمِ دينٌ يُدانُ بها، العلم يُكسِبُ العالمَ الطاعةَ لربِّه في حياتِه، وجميلَ الأُحدوثةِ بعدَ وفاتِه، والعلمُ حاكمٌ والمالُ محكومٌ عليه .
يا كُمَيْلُ، ماتَ خزَّانُ الأموالِ وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقون ما بَقِيَ الدَّهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ، وأمثالُهم في القلوبِ موجودةٌ … ” رواه ابنُ عبدِ البرِّ .
,فإذا كان ذلك كذلك ، فاحرصوا – أيَّدكمْ اللهُ – على أن تكونوا من حملته الذين عناهم الرسولُ – ﷺ – بقوله :” يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدوله ينفونَ عنه تحريفَ الغالينَ ، وانتحالَ المبطلينَ ، وتأويلَ الجاهلينَ ” رواه الإمامُ أحمدُ .
جلعني اللهُ وإياكم من عباده الذين يستمعونَ القولَ فيتبعونَ أحسنه ، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه .
تعليق واحد
أعجبني
تعليق